04:54:06صباحا

اخبار المركز

الخميس، 16 يناير 2025

ديناميت الإعتراض

 ديناميت الاعتراض. 

————————

قبل سنوات، دُعيتُ لحضور عرض فيلم “محمد صلى الله عليه وآله” في المسرح الوطني. كان الفيلم إنتاجًا إيرانيًا، واستثنائيًا بكل معنى الكلمة. وصلتني الدعوة من أحد الإخوة القائمين على المسرح والفنانين، وكان العرض مدفوعًا بالكامل. رحبوا بحضوري، وطلبوا مني اصطحاب أولادي معي. كان هذا حدثًا مميزًا بالنسبة لي، إذ كانت المرة الأولى التي يدخل فيها أولادي إلى مسرح أو يشاهدون فيلمًا بهذا الحجم، عن حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.

عند وصولنا إلى المسرح، امتلأت القاعة بالحضور. اخترت الجلوس في آخر المقاعد، حيث تعلّمت منذ صغري أن المقاعد الخلفية تمنحك تجربة مشاهدة أفضل مع الشاشات الكبيرة. أتذكر كيف كانت السينمات في بغداد قبل التسعينيات، وكيف كان الجلوس في المقاعد الأمامية مرهقًا للعين بسبب قرب الشاشة.

بدأ الفيلم بمشهد رمزي مذهل: الشمس تشرق من خلف الجبال، لتعلن بداية النور بعد الظلام. كانت هذه اللقطة الأولى بمثابة رسالة عميقة تجذب المشاهد من البداية، وتجسد رمزية ميلاد النور الذي أضاء العالم بقدوم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله. لم أتمالك نفسي من التأثر، ودموعي بدأت تسيل دون توقف.

لكن، وكما يحدث أحيانًا، هناك من لا يستطيعون تقدير اللحظة. أحد الجالسين في الصفوف الأمامية أطلق اعتراضًا بصوت عالٍ، قال إن الفيلم بدأ من منتصفه، وإنه “مبتور”. شعرت بالضيق من مقاطعته، لكنه كان مصرًا على رأيه، وتسبب في إحداث ضجة أثرت على تركيز الحضور. من لهجته وطريقة كلامه، عرفت أنه ينتمي إلى منطقة معينة، وشعرت أنه جاء ليس لمشاهدة الفيلم، بل لإثارة الجدل.

حاولت تهدئته بصوت هادئ، وقلت له: “يا أخي الكريم، أنا لم أشاهد الفيلم مسبقًا، لكن خبرتي في مثل هذه الأمور تخبرني أن الفيلم بدأ للتو، واللقطة الأولى واضحة جدًا.” لكنه لم يكن مستعدًا للقبول أو النقاش، وكرر اعتراضه. لم يكتفِ بذلك، بل خرج من القاعة ليُدخّن سيجارته، وهو يردد كلمات مثل: “إلى متى نسكت؟” وكأنه يتحدث عن ظلم عظيم وقع عليه.

عدتُ إلى متابعة الفيلم، ولكن الحادثة جعلتني أفكر: لماذا يعترض بعض الناس على كل شيء؟ لماذا هذا الإصرار على إثارة الفوضى حتى في أبسط الأمور؟ بعد دقائق، عاد الرجل إلى مقعده، ومع بدء الموسيقى وظهور أسماء الممثلين والمخرج، التفت إليه أحد رفاقه وقال: “يبدو أن كلام الأخ في الخلف كان صحيحًا، الفيلم بدأ من البداية.” عندها، وللإنصاف، اعترف الرجل بأنه ربما كان مخطئًا، وقال: “يبدو أنني توهمت لأنني شاهدت الفيلم منذ فترة طويلة.”


هذه الحادثة لم تكن غريبة عليّ؛ فقد اعتدتُ مواجهة مثل هذه الشخصيات في حياتي اليومية. المشكلة أن البعض يتعجلون في إصدار الأحكام، ويعترضون على أي شيء دون علم أو دراية، فقط بدافع الاعتراض. هذا السلوك لا يقتصر على الواقع فقط، بل نراه اليوم بشكل أوسع على مواقع التواصل الاجتماعي.


في الفيسبوك، مثلًا، ما أن تكتب فكرة أو تنشر رأيًا، حتى تنهال عليك الاعتراضات من كل اتجاه. كثير من هذه الاعتراضات لا تستند إلى علم أو منطق، بل تكون بدافع شخصي أو تعصب مذهبي أو سياسي. المشكلة الأكبر أن بعضهم لا يكتفي بالاعتراض، بل يسعى للتشكيك في نواياك، ووصفك بأوصاف سلبية فقط لأنك تخالفهم الرأي.

هذا الذباب الإلكتروني، كما يُطلق عليه، مهمته الأساسية إقصاء المثقفين وأصحاب الفكر، وقتل كل محاولة للنهوض بالمجتمع. إذا كتبتَ شيئًا عن مشروع ناجح، أو أشدتَ بخطوة إيجابية في بلدك، وصفوك بالعميل أو المنتفع. وإذا انتقدتَ الفشل أو التخلف، قالوا إنك تحاول الهروب من المسؤولية أو أنك “ضد البلد”. لماذا لا نتعلم أن نحترم آراء الآخرين؟ لماذا لا نترك لكل إنسان مساحته الخاصة يعبر فيها عن أفكاره؟

صفحات الإنترنت، كما أراها، هي مساحات شخصية. أعتبر صفحتي مكانًا أدوّن فيه تجاربي وأفكاري، وأعرضها للفائدة. من يرى فيها فائدة فليأخذها، ومن لا يرى، فليس من حقه التدخل أو التشكيك. ورغم ذلك، تجد من يصر على اقتحام خصوصيات الآخرين، وفرض آرائهم عليهم.


المشكلة ليست فقط في الأفراد، بل هي أعمق وأشمل. إنها أزمة مجتمع يعاني من اختلال في القيم، وتراكمات من التربية الخاطئة التي زرعت التعصب بدلًا من التسامح، والجهل بدلًا من العلم، والتشكيك بدلًا من الحوار. هذا التدهور الأخلاقي لم يكن وليد لحظة، بل نتاج منظومة متكاملة ساهمت في تراجع الأخلاق، بدءًا من غياب التربية الأسرية السليمة، مرورًا بالتأثير السلبي لبعض الجماعات التي غرست التعصب والعداء للآخرين، وصولًا إلى استخدام الدين أحيانًا كأداة لتبرير التفرقة.


ما يزيد الأمر سوءًا أن هذه الممارسات أصبحت مألوفة لدرجة أنها باتت وكأنها ثقافة اجتماعية مقبولة في بعض الأوساط. أصبحنا نرى أشخاصًا يعترضون فقط لإثبات وجودهم، دون أن يقدموا حلاً أو رؤية بديلة. الاعتراض أصبح وسيلة للبروز، ولو على حساب الحقيقة. هذا الانحدار الأخلاقي ليس عابرًا، بل هو نتيجة تراكمات طويلة الأمد، بعضها مرتبط بمصالح حزبية أو جماعية، وبعضها الآخر ناجم عن غياب التربية السليمة التي كان من المفترض أن تغرس فينا قيم الحوار والاحترام.

لكن التحدي الأكبر ليس فقط في مواجهة هذا الواقع، بل في إيجاد حلول حقيقية تعيد للمجتمع توازنه. كيف يمكننا أن نعيد بناء منظومة الأخلاق التي ضاعت؟ وكيف يمكننا أن نعلم الأجيال القادمة أهمية الاحترام المتبادل والوعي؟ هذا ليس دور فرد أو جهة واحدة، بل هو مسؤولية الجميع.


نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل، وأن ينير بصائرنا، ويبعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. نحن بحاجة إلى وعي جديد، وقلوب نقية، ونفوس تخاف الله في أفعالها وأقوالها. نسأل الله أن يحفظنا من الجهل، وأن يجعلنا من العاملين للخير والناشرين للنور في هذا العالم.


الشيخ مجيد العقابي 

مركز الفكر للحوار والإصلاح 

٢٠٢٥/١/٧


تلغرام.  

https://t.me/iljnaan


ديناميت الإعتراض

شاهد ايضا

  • Blogger Comments
  • Facebook Comments

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Top