الإصلاح الديني.. التفريق والاشتغالات
المواطنة والديمقراطية نموذجاً
حسين العادلي
مساحة الإشتغال
ليس السؤال في ضرورة الإصلاح الديني من عدمه، فضرورات المتحوّل والمتغير الإنساني/التاريخي توجب إجراء الإصلاحات لضمان الإتساق مع حركة تطور التاريخ. إلاّ أن الأسئلة الأصح التي يجب ايجاد أجوبة عليها، هي: ماهي مساحات اشتغال الإصلاح المراد احداثه في الفهم الديني؟ وهل توجد دوائر خارج اطار الإصلاح؟ وهل يمكن الإشتغال على المساحات المتحركة من الدين لإنتاج خطاب ديني قادر على تحرير الدين والدنيا معاً من أسر النمطيات الفكرية والسلوكية التي حالت دون التطور؟
التفريق
لإجراء الإصلاح الديني، يجب ابتداءً: التفريق بين الدين باعتباره منجزاً إلهياً، وبين الفعل الإنساني الديني قراءةً وخطاباً وتجربة تأريخية. ومثل هذا التفريق ضروري بذاته، كونه يؤصل البنية الذاتية لكل من الدين والفعل الإنساني، ويحقّل التبعات المتبادلة لكليهما، ويسهّل الفرز بين ما هو ديني وإنساني، ويحدد مساحات الإصلاح المراد الإشتغال فيها، وهو الأمر الذي سيجعل الحركة الإنسانية التأريخية قادرة على توظيف المنجز الديني بما يتلائم وتطورها المستمر.
الخطاب الديني غير الحقيقة الدينية، وكذا الفعل الديني،.. إنه قراءة وتجسيد إنساني للحقيقة الدينية تتأثر بقبليات القاريء ومناخات وعيه وانضباطه وموضوعيته، وقد تقترب أو تبتعد عن الحقيقة الدينية، إلا أنها لا تمثل الحقيقة الدينية بالمطلق.
بوصلة الإصلاح
يجب تحديد اتجاه بوصلة الإصلاح، وبنظري، فإن مساحات الإشتغال يجب أن تتجه صوب إصلاح الفكر الديني كبنية وأنساق ومديات قولبة التاريخ الملتصق به، باعتباره (أي الفكر الديني) العقبة (الزمكانية التاريخية) أمام توظيف الحقيقة الدينية وتطور الحياة الإنسانية معاً. إنّ العقبات الحقيقية للإصلاح تتمركز في طبيعة الخطاب والتجربة الدينية التي تنتمي للدين، ولا تتصل بالبنية الذاتية للدين كحقائق إلهية يراد للإنسانية الإهتداء بها.
مساحات الإشتغال
أهم مساحات اشتغال الإصلاح الديني التي تعني مجتمعاتنا اليوم تلك المتصلة بإعادة رسم العلاقة من جديد بين الدين والدولة، على أساس من مدنية الدين والدولة معاً، والإعتراف المتقابل بينهما على وفق استحقاقات خلافة الجنس البشري وأصالة فعله وحرياته وخياراته، وأعني بالدولة هنا النسق البنيوي المتكامل من إقليم جغرافي ومجتمع تعددي ونظام قانوني وسلطات تمثيلية. وأتصور لا مشكلة حقيقية في توظيف المنجز الديني للوصول إلى خطاب ديني مدني يؤصل لدولة الإنسان، بل المشكلة في الأقيسة النمطية التي تطرحها أنماط الخطاب الديني التقليدي التي تشل حركة تطور المجتمع والدولة معاً، وهو ما يجب شموله بالإصلاح.
نموذج الإشتغال الأول: صحيفة المدينة وعقد المواطنة
يمكن الإستناد إلى (صحيفة المدينة) كأهم حادثة تأريخية جسدت المبدأ القيمي الأول للدولة المدنية، ألا وهو المواطنة، والذي يمكن اعتباره الأساس التصالحي المشترك بين مدنية الدين والدولة معاً. فبمجرد هجرة الرسول الأكرم (ص) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة سعى لتأسيس الجماعة السياسية (أي الدولة)، وتشكيل الجماعة السياسية يستلزم اعتماد الرابطة الصادقة على جميع أعضائها دونما تمييز،.. لقد وجد (ص) لديه واقعاً لا يمكن بحال حمله كلياً على أساس العقيدة، حتى أنَّ المسلمين المتوحدين بالعقيدة لم يكونوا واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الإمكانات والإنتماء إلى الأرض على عكس المهاجرين.. مما اقتضى الأمر المواخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة، كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود والنصارى.. وهنا فإنَّ اعتماد العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف يصدق على قسم من الناس ولا يصدق على القسم الآخر، فالإخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلح لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط، وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقائدية والإجتماعية، وهنا فإنَّ لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقائدية، فكانت (صحيفة المدينة) التي هي عقد سياسي لتشكيل أمة سياسية، وهذا ما فعله الرسول(ص) عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، ونلاحظ أنَّ الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الإتفاقية بأنهم (أمّة من دون الناس)، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة. لقد وصفت الصحيفة - مثلاً- أنَّ اليهود طائفة من المؤمنين، والمؤمنون هنا هم الجماعة السياسية المكونة لمجتمع المدينة الذي توحد على أساس صحيفة المدينة، وقد أكدت أيضاً أنهم الكفة المقابلة للمسلمين في هذه المعاهدة ((وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم))، وأنهم جميعاً (أمّة واحدة من دون الناس). وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكّلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة،..وهذا يلتقي مع مبدأ المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفـراد المجتمع السياسي للدولة والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعاً.
إنَّ تلّمس جوهر صحيفة المدينة يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، فقد قامت على الإعتراف بالتعددية وإقرار حرية المعتقد وعضوية الإنتماء إلى الجماعة السياسية والشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات المعنوية والمادية، كما منحتهم التكافؤ والعزة والكرامة في ظل التجربة المشتركة التي تعتمدهم جميعاً. ومن الملفت للنظر أنَّ صحيفة المدينة أعتبرت الحقوق هبة الله تعالى وليس لأحد انتهاكها وأنها قرنت الحقوق بالواجبات في تأكيد جازم على ملازمتها لإنتاج حياة مسؤولة وهادفة، وأشارت إلى قدسية حقوق الإنسان من خلال تأكيدها على التعاون ضد الظلم والفساد والطغيان وحماية الضعيف، ولم تعط أي طرف ميزة خاصة.
نموذج الإشتغال الثاني: الدين والديمقراطية
يمكننا القول: أنّ الدين يلتقي في جوهره القيمي مع الديمقراطية المنتجة للدولة المدنية. ولقد استقر الفكر السياسي الحديث على اعتبار أنَّ الديمقراطية نظام يمنح القدرة لكافة مواطني الدولة على حُكم أنفسهم من خلال ممثليهم بانتخابات حُرّة ونزيهة قائمة على تعددية حقيقية. فهل يقبل الجوهر القيمي للدين هكذا نظام؟ برأيي، نعم، بدليل:
أولاً: بعد انتهاء مرحلة عصر النص، فإنَّ الحديث عن شكل الحكم يقوم على الأصل الثابت وهو (ولاية الأُمة على نفسها)، باعتبار (أنَّ مسألة الحكم في الوقت الحاضر لم تعالج في نص خاص على مذهبي الشيعة والسنة معاً) كما قال السيد الشهيد محمد باقر الصّدر، فيكون الرجوع إلى أصل ولاية الأُمة على نفسها لتنظيم آليات حياتها بما يحفظ لها وجودها وبقاءها وتقدمها هو الراجح ما دامت الأُمة لا تتحدد بصيغة ثابتة للحكم ولكونها الأدرى بما يُناسبها لتسيير أمورها العامة وهي صاحبة المصلحة في كل ذلك،.. وعليه فلها حق الإختيار وحق التطبيق لصيغ الحكم التي ترى صلاحها لتنظيم وإدارة واقعها، ومنها الصيغة الديمقراطية، وكما قال المرحوم الشيخ شمس الدّين (لا يوجد لدينا في الشرع على الإطلاق لا في الكتاب ولا في السُنّة ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل).
إنَّ ثبوت مبدأ نفي سيطرة الإنسان على الإنسان إسلامياً، يقضي بالرجوع إلى رضا الناس وقبولهم لتحقيق الشرعية السياسية للحكم، وما البيعة أو العقد أو الإنتخاب سوى مصاديق كاشفة ومؤكِدة لرضا الناس واختيارهم، مع التأكيد بأن الإسلام لا يعترف بشرعية أية سلطة تقوم على التغلّب أو الوراثة أو الإكراه.
ثانياً: لقد أقام الإسلام رؤيته للإنسان على أساس استخلافه لإعمار الأرض {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكَةِ إني جاعِلٌ في الأرضِ خَليفة..} 30 البقرة، ومن مقتضياتها العقل والإرادة والإختيار الحر، فالإستخلاف هنا حركة واعية وحُرّة، ولا جوهر لها مع انتفاء الإرادة والإختيار، فعندها ستغدو قانوناً جبرياً يصدق على الإنسان كما يصدق على الجماد، ولانعدمت حركة التأريخ ولساد الجبر،.. واقتران الجزاء في الدنيا والآخرة مقترن بالحرية والتأسيس القائم على ضوئها، من هنا كان للعمل الإنساني أصالة {فاستَجابَ لهُم ربُّهُم أنَّي لا أُضيعُ عَمَلَ عاملٍ منكُم من ذَكرٍ أو أُنثى..} 195 آل عمران، لأنه مقترن بالقدرة على الإختيار {إنَّا هَديناهُ السّبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} 3 الإنسان، ومن هنا أيضاً تترتب عليه النتيجة {فَمنْ يعمل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَه. ومَنْ يعمل مِثقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} 7-8 الزلزلة. ويقوم على ذلك كله تأصيل الإختيار ونفي الإكراه {لا إكرّاهَ في الدّين. قد تبين الرشد من الغي} 256 البقرة، {ولو شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً أفَأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حتّى يكونوا مُؤمنين} 99 يونس، ويؤسَّس عليه حرية التعبير عن العقيدة والرأي والفكر والضمير ،.. وتتفرع عنها كافة حريات الإنسان في العمل والتجمّع والتملّك والسفر والإقامة..الخ، لأنَّ النّاس إسلامياً مُسلّطون على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ومصائرهم.. وذلك كله من مقتضيات إرادتهم الحرّة. كما أقام الإسلام رؤيته على وحدة الأصل الإنساني ووحدة نوعه وهويته بعيداً عن أي تمايز بسبب العِرق أو اللون أو المال أو الطبقة {يا أيُها النّاسُ اتقوا ربّكُم الذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ..} النساء 1، {يا أيّها النَّاس إنّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أكرَمَكُم عِنَدَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَليمٌ خَبير} 13 الحُجُرات، ويؤسَّس عليه نبذ التمييز والدونية والإنغلاق ، وإشاعة التكافؤ والمساواة والإنفتاح. كما أكد الإسلام على الكرامة الإنسانية الفريدة { ولقدَ كَرَّمنا بَني آدمَ ..} 70 الإسراء، التي ترفض الظلم والإستبداد والإضطهاد، لذا أكسب الإنسان حق الحياة وحق العدل وحق التكريم وحق الأمن.
من جانب آخر، تقر النظرة الدينية الإختلاف كسُنّة تتقوم بها الحياة وتقوم عليها الحركية الإنسانية التأريخية {ومِنْ آياتِهِ خَلقُ السَّمواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتكُم وألوانكُم إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ للعَالِمين} 22 الرّوم، وهو ليس اختلاف تضاد بل اختلاف تكامل فالتشابه يقضي على إمكانية نشوء الحياة والحركة الإنسانية،.. ويستتبع ذلك الإقرار بحقيقة التعددية في الحياة الدنيا، ومآل نتائجها عند الله تعالى في الآخرة {قُلْ كُلٌّ يعملُ على شَاكِلَتِهِ فَربُّكُم أعلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدَى سَبيلا} 84 الإسراء، {ولِكُلٍ وِجهَةٌ هو مَوَلِّيها فاستبِقُوا الخيرَات..} 148 البقرة، {..لِكُلٍ جَعَلنا شِرعَةً ومنهَاجاً ولو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمةً واحِدةً ولكن لِيَبلُوَكُم فيما آتَاكُم..} 48 المائدة. من هنا يستلزم الواقع الإعتراف بوجود الآخر المختلف سواء في العقيدة أو المنهج بغض النظر عن رأينا بعقيدته ومنهجه.. استناداً إلى حقيقة الإختلاف وما ينجم عنها من تعددية في الحياة التي تتخذ صور التعددية في الفكر والعمل والسياسة.
ثالثاً: إشتراك الإسلام والديمقراطية بنفي ونبذ ومحاربة الإستبداد،.. وهنا تجب الإشارة، إلى أنَّ الإسلام لم يؤكد على مبدأ أو قيمة أو مَعلَم - بعد توحيد الله تعالى - أكثر من تأكيده على العدل والقسط، حتى أنه جعل إقامة القسط لغاية من النّبوات وأهداف الكِتاب {ولَقَد أرسَلنَا رُسُلَنَا بالبَيِّنَاتِ وأنزَلنَا معهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بالقِسط..} 25 الحديد، من هنا جاء التأكيد بوجوب إقامة وإشاعة العدل باعتباره عماد ومقياس أية تجربة، وفي طليعة استحقاقات العدل إقرار حقوق البشر ونفي استعبادهم وظلمهم واستغلالهم ومصادرة حقوقهم في الولاية على أنفسهم،.. وإنَّ في نفي الإسلام للتسلّط وهظم الحقوق تأكيد على نفي أية شرعية للحكم الإستبدادي المنافي لرضا وقبول الناس،.. وسواء قلنا بالشورى الإلزامية أو البيعة المشروطة أو الإنتخاب الحر.. فهي كافة أوجه لتأكيد رضا الناس وقبولهم بما ينفي الإستبداد والتسلّط بالإكراه، وبما يؤصّل لإختيارهم بعيداً عن التغلّب والإضطهاد.
أقول: إنّ إنتاج الخطاب الديني المدني المؤصل للمواطنة والديمقراطية والحقوق المدنية، إنما هو نموذجاً للمساحات التي يمكن الإشتغال عليها بما يضمن اصلاح الخطاب الديني من جهة، ومن جهة أخرى يضمن الموائمة بين الدين والدولة بما يحفظ للدين نظامه القيمي وللدولة مشروعيتها ومشروعها الإنساني القائم على أصالة الإنسان ونتاجه التاريخي المتحرك والمتطور.
0 التعليقات:
إرسال تعليق