الشيخ حسن عطوان
[ الدولة المدنية ]
الدولة المدنية :
مصطلح شاع في العصر الحديث .
ويُقصد بالدولة المدنية : الدولة التي تستند في قوانينها الى التشريعات الوضعية التي هي نتاج العقل البشري ، وترفض أنْ يكون الدين هو مصدر التشريع الأساسي للدولة فضلاً عن كونه الوحيد .
وهذا يعني أن الدولة المدنية هي دولة علمانية ، لافرق بينهما من هذه الناحية .
فالمصطلح مستورد من بيئة غير بيئتنا ،
وهذا وإنْ لم يكن في حد ذاته عيباً ،
لكن لابد من البحث في أنّه هل يحمل مضموناً مخالفاً لثوابت ديننا ؟؟
أم أنّه لايحمل مثل هذا المضمون ؟؟
من هنا علينا أن نبحث عن المراد من هذا المصطلح في البيئة التي نشأ فيها ،
ثم نرى إنْ كان معناه في تلك البيئة يناسبنا فنقبله أم يتعارض مع ثوابتنا فنرفضه .
ومصطلح الدولة المدنية له في بيئته مفهوم فلسفي _ سياسي ، يناقض مفهوم الدولة الدينية ( الثيوقراطية ) ،
والتي يتردد مفهومها نظرياً بين احتمالين :
أحدهما : حكم رجال الدين ،
وثانيهما : تحكيم الدين نفسه ، وذلك بإستناد الدولة في تشريعاتها الى الدين بغض النظر عمن يحكم به .
وبعبارة : مفهوم الدولة المدنية من الناحية العملية يتمثل بتنحية الدين عن الدولة مطلقا .
فهي بمبدئها الرافض لتدخل الدين في تشريعات الدولة تعتبر من هذه الجهة دولة علمانية .
وبعضهم لايخفي أنَّ الدولة المدنية تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة ، وحصر الدين على الشعائر التعبدية في البيت او المسجد ،
وفي أحسن الأحوال تقبل تدخله في الجوانب الأخلاقية .
فمن هذه الجهة لافرق بين الدولة المدنية والعلمانية ،
وإنْ كان بعضهم يُفَضّل إستعمال لفظ المدنية على العلمانية لما يوحي به لفظ العلمانية من مضمون مرفوض عند المسلمين .
وعليه فالدولة المدنية تُطلق ويُراد بها أحد معنيين :
الأول : وهو المعنى المعروف ،
وأصحابه يدْعون للدولة المدنية بمعناها الفلسفي .
حيث جعل هؤلاء الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام السياسي .
والإنصاف أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي ، فالإسلام دين شامل ، للدنيا والآخرة .
ويتضح ذلك جلياً من خلال مفاهيمه وتشريعاته الشاملة في العبادات والمعاملات ،
بل في شريعته ( حتى أرش الخدش ) .
بالطبع أنَّ بعض هؤلاء لايقولون صراحة بأنَّ من أبرز مقومات الدولة المدنية هو رفض إستنادها في تشريعاتها الى الدين .
فيختفون أحياناً خلف عبارات من قبيل :
أنَّ الدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون ، وهي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة .
ويصَوّر هؤلاء للناس بأنَّ كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الإستبداد السياسي إلى التخلف التقني ،
إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات وووو ،
أنَّ كل ذلك سيزول بمجرد أنْ تتحول دولنا إلى دول مدنية .
ولا أدري ما علاقة رفض الدين وحصره في البيت او المسجد بتحسن الخدمات والتقدم التقني وما الى ذلك .
المعنى الثاني : وأصحابه يحاولون المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام .
يرى هؤلاء أنَّ المسألة هينة وأنه مجرد اصطلاح ، ولا مشاحة فيه .
وعلى ذلك فهم يقررون إنَّ الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية ، مع انَّ دستورها القران والسنة .
وهذا بلا شك محاولة للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو من ثوابت الشريعة ،
إذ لم يدَّع أحد أنَّ للأمة حق التشريع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة .
لكن هذه المواءمة تحمل تناقضاً في ثناياها ، إذ كيف نصطلح على مثل هذه الدولة بإنها لا دينية مع أنَّ دستورها هو الكتاب والسنة ، فمعنى كونها لا دينية يعني أنها لا ترتبط بالدين بأي نحو .
والإنصاف أنَّ المشكلة لا تكمن في الاصطلاح ، فيمكن أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو ديمقراطية او أية تسمية ،
لو لم تكن هذه المصطلحات لها جذور فلسفية تتنافى مع ثوابتنا .
وبالتالي يكون إستعمال هذا المصطلح لوصف الدولة سبباً في اللبس وخلط الأمور ؛لأن هذا الاصطلاح ليس مجرد اصطلاح ، وإنما هو مُحَمّل بالدلالات التي حملها من البيئة التي قدم منها .
فإذا كان بعض الذين يستعملون هذا المصطلح يقولون بمرجعية الشريعة،
فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح موهم .
لا أرى أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال .
فالمصطلح إذا كان يحتمل معنىً غير مقصود فإنه يُعْدَل عنه إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى .
يقول جلَّ وعلا :
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ] [البقرة: 104 ] .
او : اذا عجزنا عن إيجاد مصطلح لتسمية الدولة التي نرغب بها إلّا مصطلح الدولة المدنية فعلى الأقل أنْ نوضح أنّ مرادنا منه ليس هو المعنى المعروف .
الأهم من كل ذلك :
أنَّ هذا المصطلح يُنسب لمرجعية عليا عظيمة على لسان فضلاء مقربين من مكتبها المبارك .
ولم يوضح هؤلاء الأفاضل المراد من الدولة المدنية التي يقولون أنَّ المرجعية العليا تؤيدها !!
وإنْ كنت أكاد أجزم أنَّ سماحة المرجع الأعلى لايمكن أنْ يتبنى تأييد الدولة المدنية بالمعنى الأول .
بل أني وبحسب معرفتي بالدقة العالية التي يتمتع بها ( دام ظله ) أستبعد أنْ يوافق على إستعمال هذا المصطلح حتى بمعناه الثاني .
والله من وراء القصد ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق