الشيخ حسن عطوان
يقول سبحانه في كتابه الكريم :
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصاری وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) [ البقرة : 62 ]
🖋 شاع في العصر الحديث تداول :
مصطلح ( التعددية الدينية ) ، ( البلورالية ) .
وجذور الفكرة قديمة .
ولعل أهم مَن نَظّر لها في هذا العصر هو الفيلسوف الغربي المسيحي ( جون هيك ) في كتابه فلسفة الدين ،
وأهم مَن روج لها في أوساط المسلمين المفكر الإيراني ( عبد الكريم سروش ) في كتابه الصراطات المستقيمة ،
ونقلها عن الأخير آخرون من أوساطنا .
وتعدّ مسألة التعددية الدينية اليوم من أهم مسائل فلسفة الدين .
🖋 فما هو المراد من هذه التعددية ؟؟
وماهو الموقف منها ؟؟
فُسرت التعددية الدينية بعدة تفسيرات ، أهمها تفسيران :
🖋 الأول : تعدد الحقيقة .
والمراد بتعدد الحـقيقة : أنَّ الحـقيقة ليست واحـدة ، بل هي متعددة ،
فالحق والحقيقة ليسا حكراً على دين معين ،
فليس هناك دين حق بالمطلق ، ولادين باطل بالمطلق
فالحقانية نسبية في كل الأديان والمذاهب ،
لاسيما التي تنسب نفسها للسماء .
فالإسـلام يـمتلك الحقيقة ،
والمسيحية تمتلك الحقيقة ،
واليهودية كذلك .
وهكذا عـلى مستوى المذاهب ،
فإنَّ الشيعة يمتلكون الحقيقة ،
والمذاهب الأخرى تمتلك الحقيقة أيضاً ،
والإنسان له أنْ يختار أي دين أو مذهب ،
فكلها على حق ،
وكلها ستنجيه في يوم القيامة .
فلاتنحصر النجاة بدين أو مذهب معين .
وهذا المعنى في حقيقته يرجع الى نظرية نسبية الحقيقة وأنَّ لادين يمتلك الحقيقة المطلقة لوحده .
🖋 وهذا التفسير للتعددية لا يـمكـن قـبـوله ؛ لأنَّ معنى ذلك الجمع بين المتناقضين ؛ وهو مستحيل عقلاً .
فمثلاً : ما يعتقد به اليهود والنصارى من أنَّ بعض الأنبياء هم أبناءٌ لله سبحانه :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) [ التوبة : 30 ] .
فعلى ضوء هذه النظرية سيكون هذا الاعتقاد حقيقة .
وسيكون مايعتقد به المسلمون من نفي بنوة أحد لله سبحانه هو الآخر حقيقة .
وهذا جمع بين المتناقضين .
وهكذا سيكون ما يعتقد به الإمامية حقيقة ، وكذلك ما يعتقد به الزيـديـة مثلاً حـقيقة أيـضاً .
فالإمامي يعتقد مثلاً أنَّ الإمامة بعد الإمام السجاد للإمام الباقر ( عليهما السلام ) ، وليست لزيد بن علي ،
بينما الزيدي يعتقد أنَّ الإمامة لزيد بن علي وليست للباقر ،
وحينئذ وفق هذه النظرية فالإمامية يمتلكون الحقيقة ، والزيدية أيضاً يمتلكون الحقيقة .
ولازم ذلك أن يكون قولنا : " الباقر إمام " حـقيقة ،
و " البـاقر ليس إماماً " حقيقة أيضاً .
وهذا جمع بين المتناقضين ،
وهو مستحيل عقلاً كما أسلفت .
🖋 التفسير الثاني : التعدد في الشرائع الدينية :
بعد وضوح بطلان التعددية الدينية بتفسيرها الأول ،
مال المناصرون لهذه النظرية الى تفسير ثانٍ لها ، حاصله :
أنَّ الدين شـيء ،
والشرائع الدينية شيء آخر ،
فالدين واحد ، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد ،
والشرائع الدينية _ التي هي التعاليم العملية والأخلاقية _ متعددة .
فالشرائع الدينية التي جاء بها الأنبياء متعددة ومختلفة ، تبعاً لإختلاف ظروف الزمان والمكان .
وبعبارة : إنَّ الدين يتعلق بعقيدة الإنسان حول وجود الله وصفاته فهو واحد لايقبل الإختلاف ،
وإرسال الأنبياء جميعاً كان لتنبيه الفطرة على الإعتقاد بذلك .
أما الشرائع فهي لتنظيم علاقات الإنسان الفردية والإجتماعية ؛ لذلك فهي مختلفة بإختلاف الظروف والبيئة التي يعيش فيها النبي .
🖋 ويكفي في سعادة الإنسان ونجاته أنْ يؤمن بالله ، وأن يلتزم في حياته بتعاليم أحدى الشرائع .
فهناك عدد من الأديان الحقة في كل زمان ، ويستطيع الإنسان في أي زمان أن يدين بأي دين يريد ، فيكفي للإنسان أنْ يعبد الله، وأنْ ينتسب لأحد الأديان السماوية النازلة منه تعالى، وأنْ يعمل بأوامرها ، وينتهي عن نواهيها .
وبعبارة أدق : الحق واحد وكل دين من الأديان يمثل صراطاً نحو ذلك الحق .
🖋 بل أضافوا لذلك شيئاً أخطر ، حاصله :
أنَّ الشرائع ليست إلا معارف بشرية ؛ إذ أنَّ الوحي الذي كان ينزل على النبي كان ينزل عليه على صيغة شفرة ، وهو كان يفك هذه الشفرة بحسب فهمه وثقافته وبيئته .
وبعبارة أخرى : أنَّ ما نزل على الأنبياء عبارة عن مضامين كلية ، والنبي هو الذي يفصّل ذلك المضمون الذي نزل عليه بحسب فهمه .
فالنبي عندما يفك الشفرة التي تنزل عليه من السماء فإنه يفكّها بحسب ما يفهمه هو .
أي : أنه يفكّها على طبق ذهنه البشري الذي يتأثر بما حـوله مـن ظـروف زمانية ومكانية .
وبعبارة موجزة :
أنَّ مايصدر عن النبي في مجال التشريع ليس وحياً ،
انما هو معرفة بشرية ، والمعارف البشرية متعددة ؛ لأن كـل نـبـي يـفك الشفرة السماوية على طبق فهمه المتأثر بما حوله من ظروف زمانية ومكـانية .
🖋 ويترتب على ذلك كما يقول أصحاب هذه النظرية :
أنَّ من حق أي إنسان أنْ يختار أية شريعة يريد .
بل قال بعضهم بأكثر من ذلك :
فمادام النبي أبلغنا بحسب فهمه البشري فمن الممكن أنْ تتغير الاحكام بحسب تغيّر فهم العقل البشري وتطوره .
🖋 الموقف من التفسير الثاني للتعددية :
فنقول :
إنَّ معارف الأنبياء والرسل والأئمة لايمكن ألّا أنْ تكون معارف إلهية ، وليست بشرية .
وبالتالي فهي ليست قـابلة للتعدد ،
ولو كـانت معارفهم بشرية ،
ومجرد استنتاجات ذهنية ،
لبطل الغرض من إرسالهم .
فالغرض من إرسال الأنبياء :
هو إيصال الإنسان الى كماله .
والإنسان لايمكن أن يصل الى كماله في مسيرة الكدح الى الله سبحانه بالإعتماد على عقله فقط .
ويشهد لذلك أنَّ المشرعين البشر على طول التاريخ عندما يشرعون يعتقدون أنهم درسوا كل التفاصيل ونظروا الى كل الزوايا ، ثم بعد حين يكتشفون وجود خلل فيبدأون بالتعديل لمرة او اكثر ، مع أنهم يشرعون لبعض الناس وعلى بقعة من الارض ، فكيف يكون العقل البشري قادراً على تشريع قانون لكل البشرية على امتداد اجيالها ، وللدنيا والآخرة ؟!
من هنا جاءت ضرورة بعثة الأنبياء ،
فالغرض من بعثتهم هو إيصال البشرية الى كمالها .
فلو كانت الشريعة من عند النبي وليست وحياً ،
فالنبي بشر ، وبدون وحي وبدون عصمة يمكن أن يُخطئ .
وبالتالي لم تُحل مشكلة المعرفة عند الإنسان .
وكأنَّ الله سبحانه يدعونا للكدح اليه دون أنْ يعلمنا كيفية الوصول ، حاشاه .
[ له تتمة ]
0 التعليقات:
إرسال تعليق