صُنّاعُ النِفاقِ.
كُلَّما تَقَدَّمَ الزَمانُ فِي الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ كُلَّما بَدَأَتْ تَعِيشُ الاِسْتِغْرابَ وَالتَشَتُّتَ وَالقَطِيعَةَ حَتَّى مَعَ تارِيخِها عَلَى الأَقَلِّ فِيما ضَمِنَ لَها التَمَيُّزَ أَوْ البَقاءَ. مِنْ قَبِيلِ الكَلِمَةِ وَالمَوْقِفِ وَالعَطاءِ.
وَبَدَّلَ أَنْ تَتَطَوَّرَ هٰذِهِ الفاهِمَةُ إِلَى نَسَقٍ قُرْآنِيٍّ إِنْسانِيٍّ بِاِعْتِبارِ أَنَّ الأُمَّةَ العَرَبِيَّةَ مُسْلِمَةٌ بِاللّٰهِ وَالقُرْآنِ وَالنَبِيِّ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَأَنَّ القُرْآنَ نَزَلَ فِي بِيئَتِها!
اِبْتَعَدَتْ عَنْ الإِنْسانِيَّةِ وَالمَبادِئِ أَكْثَرَ مِمّا كانَتْ عَلَيْهِ فَضْلاً عَنْ القُرْآنِ وَالسُنَّةِ فَقَدْ اِسْتَبْدَلَتْهُما بِالأَفْعالِ المُتَذَبْذِبَةِ وَالأَفْكارِ المُلَوَّثَةِ وَبِالتّالِي اِنْعَكَسَ هٰذا التَباعُدُ الطَرْدِيُّ عَلَى الواقِعِ بِرُمَّتِهِ.
كانَتْ العَرَبُ تُحْتَرَمُ الكَلِمَةَ وَتَخْشَى مِنْ أَنْ تُعِيرَ أَوْ يَساءَ لَها فَلا تَنْقَضُّ عَهْداً وَلا مَيْثِقاً وَلا تَنْزِلُ مِنْ قَدْرِها اِلْتِزاماً مِنْها فِي الكَلِمَةِ. فَمَنْ أُعْطِيَ الأَمانَ لا يَتَرَدَّدُ بِالظُهُورِ أَبَداً لِأَنَّهُ واثِقٌ جِدّاً مِنْ عَدَمِ تَعَرُّضِهِ لِلسُيُوفِ وَلَوْ كانَتْ السُيُوفُ بِيَدِ الخَمارَةِ(فَهُوَ يَعْرِفُ مَعْنَى الكَلِمَةِ) . وَمَنْ أَعْطا وَعْداً فَلا يَمْنَعُهُ مِنْ أَدائِهِ إِلّا المَوْتُ وَيُؤَدِّي الوَعْدُ مَهْما كَلَّفَهُ الأَمْرُ وَلِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِلرُجُولَةِ وَالكَلِمَةِ كانُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى دابَّةٍ تَرْعَى فِي حُماهُمْ وَما حَرْبُ البَسُوسِ إِلّا إِحْدَى هٰذِهِ القِصَصِ الَّتِي أَشْعَلَتْ الحَرْبَ لِأَكْثَرَ مِنْ ٢٠ سَنَةً ( طَبْعاً مُخْتَلِفٌ عَلَيْهِ فَهُناكَ مَنْ قالَ ٤٠ سَنَةً) بِسَبَبِ أَنَّ ناقَةَ البُسُوسِ أُصِيبَتْ بِسَهْمِ كُلَيْبٍ فَاِنْتَفَضَ جَسّاسٌ لِذٰلِكَ لِأَنَّ الناقَةَ كانَتْ فِي حَماهُ وَجارِهِ.
لِذٰلِكَ كانَ سِلاحُهُمْ الشَعْرُ فِي الهِجاءِ وَهٰذا دَلِيلُ اِحْتِرامِهِمْ وَاِعْتِزازِهِمْ بِالكَلِمَةِ فَصاغُوها شِعْراً.
فِي الزَمَنِ الأَوَّلِ كانَ السَبْقُ لِلأَفْضَلِيَّةِ وَالتَمَيُّزِ وَلا يَسْمَحُ بِالتَعَدِّي عَلَى التَخَصُّصِ أَبَداً. فَأَنْتَ تَقْرَأُ أَنَّ السائِسَ وَالطَبّاخَ وَالفارِسَ وَالتاجِرَ وَالحَكِيمَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُمْ يُمارِسُ دَوْرَهُ الطَبِيعِيَّ التَخَصُّصِيَّ دُونَ التَضارُبِ أَوْ التَصادُمِ مَعَ الآخَرِ ، وَلا يَقْبَلُ أَنْ يَتِمَّ تَنْصِيبُ المَفْضُولِ عَلَى الأَفْضَلِ أَبَداً لا بِالعُمْرِ وَلا بِالتَخَصُّصِ وَما يَشْهَدُ بِذٰلِكَ اِسْتِهْزاءَ أَبِي قُحافَةَ بِوَلَدِهِ عِنْدَما قِيلَ لَهُ إِنَّهُ الأَكْبَرُ فَقالَ لَهُمْ إِنْ كانَ الأَمْرُ كَذٰلِكَ فَأَنا أَوْلَى بِها مِنْ وَلَدِي ؟!
لا أَدْرِي لِماذا ضاعَتْ كُلُّ المَوازِينِ فِي يَوْمِنا هٰذا وَأَنا أَسْعَى إِلَى تَشْخِيصِ الأَمْراضِ وَعِلاجِها وَعَدَمِ الغَفْلَةِ عَمّا يَجْرِي فِي مُجْتَمَعِنا فَلَسْنا بَهائِمَ حَتَّى نَأْكُلَ وَنَنامَ وَلا نَدْرِي ماذا يَجْرِي فِي الدُنْيا وَمَنْ لَمْ يَتَحَسَّسْ المَسْؤُولِيَّةَ فَهُوَ مَيِّتٌ وَإِنْ كانَ حَيّاً. ( وَما أَكْثَرَ الأَمْواتِ فِي الصَفَحاتِ وَالكُرُوباتِ العامَّةِ وَالخاصَّةِ).
لِماذا هٰذا الاِعْتِداءُ عَلَى التَخَصُّصِ بِهٰذا الشَكْلِ الواضِحِ وَالصَرِيحِ حَتَّى يَتِمَّ إِقْصاءُ المُتَخَصِّصِينَ عَنْ أَداءِ وَظِيفَتِهِمْ وَالاِسْتِهانَةِ بِعَمَلِهِمْ وَالاِتِّكالِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؟! لِماذا؟
وَمِثالٌ عَلَى ذٰلِكَ هِيَ النَدَواتُ وَالمُحاضَراتُ وَاللِقاءاتُ فِي المُناسَباتِ الدِينِيَّةِ أَوَلَيْسَتْ هٰذِهِ المُناسَباتُ مِنْ وَظِيفَةِ رَجُلِ الدِينِ أَوْ طالِبِ العِلَمِ المُتَخَصِّصِ فِي هٰذا الجانِبِ؟ إِذا كانَ رَجُلُ الدِينِ لا يُمارِسُ دَوْرَهُ الطَبِيعِيَّ وَيَتِمُّ اِسْتِبْدالُهُ ( لِعُقْدَةٍ فِي نُفُوسِ المَرْضَى مِنْ الزِيِّ وَالعِمامَةِ ) بِغَيْرِهِ، فَماذا يَفْعَلُ هٰذا الرِسالِيُّ بِرِسالَتِهِ ؟ واين يُؤَدِّي حَقَّها؟ وَمَنْ يَكُونُ المُتَلَقِّي لِخِطابِهِ وَلَها؟
لَوْ عَكَسْنا الصُورَةَ وَقُلْنا إِنَّ رَجُلَ الدِينِ يَتَدَخَّلُ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ فَماذا سَيَكُونُ الجَوابُ ؟! هَلْ سَتَمُرُّ دُونَ الرَفْضِ وَالتَصْعِيدِ وَعَدَمِ القَبُولِ بِذٰلِكَ أَمْ لا ( وَهٰذا هُوَ الأَمْرُ البَدِيهِيُّ طَبْعاً ).
إِذا كانَتْ حُجَّةُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ هُناكَ إِساءَةً لِلعِمامَةِ مِنْ قِبَلِ زَيْدٍ وَعُمْرٍ ( وَهٰذا نَقْبِّلُهُ طَبْعاً وَنُشَخِصُهُ بَلْ تُصَدِّينا لَهُ) فَهَلْ عَصِمَتْ باقِيَ التَخَصُّصاتِ وَالَّتِي يُمارِسُ فِيها أَنْواعَ الإِساءَةِ وَالتَسْطِيحِ الفِكْرِيِّ وَالتَدَنِّيَ الأَخْلاقِيِّ مِنْ دُونِ اِسْتِثْناءٍ ؟ وَيُمْكِنُكَ أَنْ تَبْدَأَ مِنْ التَعْلِيمِ فَصاعِداً لِتَرَى اِنْحِدارَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ التَخَصُّصاتِ الَّتِي تَغْرَقُ بِالفَسادِ وَالدَمارِ. فَلِماذا لَمْ يَتِمَّ الاِسْتِغْناءُ عَنْها أَوْ التَعْمِيمِ عَلَيْها وَاِسْتِبْدالِها بِتَخَصُّصٍ آخَرَ؟ أَوَلَيْسَتْ الأَمْثالُ فِي ما يَجُوزُ وَلا يَجُوزُ حُكْمُها واحِدٌ؟
ثُمَّ مَنْ قالَ لَكَ أَنَّ المُشْكِلَةَ بِهٰذا السِلْكِ الدِينِيِّ؟! المُشْكِلَةُ بِكَ أَنْتَ أَيُّها الكَرِيمُ. لِأَنَّكَ لَمْ تَبْحَثْ عَنْ المُتَخَصِّصِ الصَحِيحِ مِثْلَما تَبْحَثُ عَنْهُ فِي الطَبِيبِ وَالتَعْلِيمِ وَالهَنْدَسَةِ وَكُلِّ شَيْءٍ فِي حَياتِكَ تَبْحَثُ فِيهِ عَنْ الأَفْضَلِ وَلا تَقْبَلُ بِأَنْصافِ الحُلُولِ!. لٰكِنَّكَ عِنْدَما تَأْتِي إِلَى الدِينِ تَأْخُذُهُ مِنْ كُلِّ مَنْ هَبَّ وَدَبَّ وَلا تُمَيِّزْ المُتَخَصِّصُ مِنْ غَيْرِهِ فَتَفْرَحْ لِأَنَّكَ حَصَلْتَ عَلَى فُرْصَةٍ لِلإِساءَةِ وَتَشْوِيهِ هٰذا التَخَصُّصِ مَعَ الأَسَفِ الشَدِيدِ مُتَناسِياً أَنَّ لِكُلِّ قاعِدَةٍ شَوّاذٍ وَأَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ البَحْثِ وَالتَدْقِيقِ قَبْلَ التَكَلُّمِ وَالتَعْمِيمِ.
فَهُناكَ رِجالٌ يَبْذُلُونَ جُهُوداً جَبّارَةً عَلَى جَمِيعِ الأَصْعِدَةِ الرِسالِيَّةِ وَلَمْ يَهُنُوا وَلَمْ يَتَراجَعُوا عَنْ أَداءِ وَظِيفَتِهِمْ مُحاوِلِينَ بِذٰلِكَ إِبْراءً لِلذِمَّةِ وَخِدْمَةِ المُجْتَمَعِ.
إِلّا أَنَّكَ تُساهِمُ فِي إِبْعادِهِمْ عَنْ مَشْهَدِ العَطاءِ وَتَسْتَبْدِلُهُمْ بِالَّذِي هُوَ أَدْنَى مِنْهُمْ لِعُقْدَةٍ فِي نَفْسِكَ وَلِخَلْقِ شَرْخٍ كَبِيرٍ بَيْنَ الأَطْرافِ فَاِعْلَمْ أَنَّ كَثِيراً مَنْ يَحْمِلُ صِفَةَ الأَكادِيمِيِّ وَالحَوْزَوِيَّةِ مَعاً وَهُوَ يَمْتازُ بِصِفَتَيْنِ لا صِفَةً واحِدَةٍ! فَتَدَبَّرْ.
وَلْيَتَقِ اللّٰهُ مَنْ يَسْعَى إِلَى التَعَدِّي وَالإِقْصاءِ وَهٰذا النِفاقُ بِعَيْنِهِ إِذْ يَبْدَأُ بِالأَقَلِّ فَيُصْدِرُهُ عَلَى أَنَّهُ المَصْدَرُ لِلدِينِ ثُمَّ يَهْرُجُ عَلَى الدِينِ وَيَلْبِسُهُ ثَوْبَ النَقْصِ وَالجَهْلِ بِسَبَبِ مَنْ جاءَ بِهِ هُوَ عامِداً أَوْ قاصِراً! لِيَعُودَ وَيَقُولَ ( أَيْنَ المُؤَسَّسَةُ الدِينِيَّةُ مِنْ فُلانٍ ) هٰذا النِفاقُ بِعَيْنِهِ فَلَوْ جِئْتَ بِالمُسْتَحَقِّ وَقَدَّمْتَهُ بِوَصْفِهِ مُتَخَصِّصاً لَاِنْتَهَتْ المُشْكِلَةُ مِنْ الأَساسِ وَلَمّا سَمَحَ هٰذا وَذاكَ بِالتَدَخُّلِ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ لٰكِنَّكَ تُساهِمُ فِي إِيجادِ الامِّعاتِ وَمِنْ ثَمَّةَ تَتَّهِمُ المُؤَسَّسَةَ وَالمَعْنِينَ بِذٰلِكَ! . فَهَلْ يُوجَدُ نِفاقٌ أَكْبَرُ مِنْ هٰذا النِفاقِ.
وَيَبْقَى النِفاقُ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ رَسُولُ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَآلُهُ مُتَجَذِّرٌ فِي هٰذِهِ الأُمَّةِ مَعَ الأَسَفِ الشَدِيدِ.
الأُمَّةُ الَّتِي تَعْشَقُ البَرْتُوْكِلاتِ وَالتَكَبُّرَ
تَعْشَقُ الاِسْتِعْلاءَ وَالتَقْزِيمَ
تَتَحَدَّثُ عَنْ الإِصْلاحِ أَكْثَرَ مِمّا تُساهِمُ فِي الإِصْلاحِ فِي المُجْتَمَعِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْهُ.
https://chat.whatsapp.com/BA9W9wAq0fKJoubj6MV3UT
لِيَكُنْ فِي بالِكُمْ الكَلامُ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْهُ مَوْقِفٌ مُحَدَّدٌ إِنَّما هٰذا الواقِعُ وَالَّذِي كَتَبْتُ عَنْهُ سابِقاً.
وَالأَزْمَةُ بَيْنَ العِمامَةِ وَالأَفَنْدِي فِي تَزايُدٍ لِأَنَّ الأَفَنْدِي يَعْتَدِي عَلَى تَخَصُّصِ العِمامَةِ وَيَسْتَصْغِرُها وَالعِمامَةِ فِيها مَنْ دَخَلَ عَلَيْها عَنْوَةً وَهٰذِهِ ثَغَراتٌ كَذٰلِكَ وَبِالتّالِي لا بُدَّ مِنْ أَنْصافِ الأَشْياءِ لِنَتَرَقَّي بِواقِعِنا وَمُجْتَمَعِنا.
لِنَحْتَرِمْ التَخَصُّصَ أَيُّها السادَةُ.
https://t.me/iljnaan
الشَيْخُ مَجِيد العِقابِي.
٢٠٢٢/٨/٢٠
0 التعليقات:
إرسال تعليق