مِنْ وَحْيِ كَرْبَلاءِ
✅ (( كربلاءُ .. ومقامُ عَيْنِ الله ))
قال الإمام الحسين عليه السلام في لحظة فارقة من مشهد فدائه العظيم بعد مصرع طفله الرضيع :
(( هوّنَ مانَزَلَ بي أنّه بعَينِْ الله ))
▪️ تبقى كربلاء الحسين عليه السلام مهبطَ الفيوضات الإلهية .. وساحة تجلّيات التوحيد وأسمى المعارف الدينية .. وتبقى كربلاء بمعناها الإلهي ينبوعاً عذباً ترتوي منه الخلائق أطهرَ معاني الكمال الملكوتية .. كلّ كلمة صدرت من الحسين عليه السلام في حرم كربلاء قابلة لأن تكون منهجاً للحياة الحقيقية .. ومدرسة كبرى في التوحيد والمعرفة الإلهية .
فها هو سيد الشهداء عليه السلام وفي أعظم لحظة من لحظات مصيبته الكبرى يدلّنا على هذه الرؤية التوحيدية العميقة في المعرفة الإلهية فيقول : هَوّنَ مانزل بي أنه بعَيْن الله ! كلّ هذه الشدائد المهولة .. والمصيبة التي جلّت وعظمت في السماوات والأرض .. أصبحت هيّنةً .. سهلةً .. لسبب واحد .. وهو : أنها في عين الله ومحضره ! هكذا يختصر الحسين عليه السلام معنى الإحاطة والحضور والقرب الإلهي لجميع عوالم الوجود .. وهكذا يجسّد قوله تعالى :
(( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ))
فما دام الله شهيداً يسمع ويرى مانزل بي .. وهو أقرب إليّ من حبل الوريد ! إذاً سيهون كلّ شيء ! لأني لست وحيداً ولاضعيفاً بل معي خالق السماوات والأرض .. الغني المطلق .. الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا .. وهو القهّار ذو القوّة المتين !
هكذا يكون شعور الإنسان عندما يدرك أنه في عين الله .. وأن جميع تفاصيل حياته بما فيها مقتله ! تقع في حضرة الله وشهوده المباشر !
حتى أن الله سبحانه عندما يريد أن يخاطب نبيّه الأكرم في المواقف الشديدة التي تقتضي الصبر والثبات يقول له :
(( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ .. ))
أي أن الله حاضر عندك ويحيطك بعنايته وحراسته وحفظه .. وهذا الشعور بالمعاينة الإلهية هو الذي يمنح الإنسان الطمأنينة وقوّة الثّبات في الموقف وإجتياز الشدائد والإبتلاءات والمصائب المتوجهة إليه مهما كان حجمها وخطرها ، وخصوصاً إذا جاء ذلك في سياق الإصلاح الإنساني والديني والدفاع عن الحقّ ومواجهة قوى الظلم والباطل والفساد .
ويمكن أن نسمّي ذلك حسب إصطلاحات المعرفة الإلهية ب ( مقام عين الله ) وهو مقام توحيدي عظيم .. يدلّ على مرتبة شهودية عميقة .. وقد ورد التعبير ب ( عين الله ) أيضاً عندما تحدّث القرآن عن نبيّ الله نوح عليه السلام حيث قال :
(( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ))
أي أنّ هذا الفُلك تتم صناعته وإنجازه تحت رعاية الله التامة وتسديده الكامل .. وأن عمل نوح فيه هو عبارة عن وحي إلهي .. والتعبير ب ( أعيننا ) صياغة قرآنية عميقة للدلالة على أهمية العمل الذي يقوم به نوح عليه السلام وأنه محاط بالشهود الإلهي والكمال من جميع الجهات .. وهكذا كان حال الحسين عليه السلام في كربلاء فكلّ مانزل به كان بعين الله وتسديده .. وقد تحدّثنا عن العلاقة بين نبي الله نوح والحسين عليهما السلام في المقالات الخاصة بشرح زيارة وارث .
ومن نتائج مقام ( عين الله ) - إضافة لما ذكرناه - أن يتحقق الإنسان ب ( مقام الحياء ) أي أنه لاتصدر منه المعصية أو الذنب بل لايفكّر فيهما ( حياءً ) من الله لأنه في عين الله وحضرته !
محمود نعمة الجيّاشي
النجف الأشرف
0 التعليقات:
إرسال تعليق